بقلم : الدكتور محمد حيدر

في الوقت الذي أصبحت فيه التكنولوجيا جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، برزت أدوات الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT كوسائل سريعة للحصول على المعلومات. هذا التطور التقني شجع الكثير من المرضى على اللجوء إلى هذه الأدوات لفحص التشخيصات الطبية ومقارنة العلاجات المقترحة لهم. ورغم أن هذا الاتجاه يبدو في ظاهره محاولة من المريض لحماية نفسه، إلا أنه يحمل في داخله إشكاليات خطيرة قد تؤثر على جودة الرعاية الصحية والعلاقة بين المريض والطبيب.

لقد ساهمت سهولة الوصول إلى المعلومات عبر الإنترنت في تكوين انطباع لدى البعض بأن المعرفة الطبية أصبحت متاحة للجميع. بضغطة زر يستطيع أي شخص البحث عن مرض ما أو عن دواء معين، أو قراءة تقارير وتجارب آخرين. غير أن هذه المعلومات، مهما بدت غزيرة ومنظمة، تفتقر إلى أهم عنصر في الطب: التقييم السريري الشخصي. فالطبيب لا يعتمد على أعراض مكتوبة أو وصف موجز، بل على فحص دقيق وتاريخ مرضي وخبرة تراكمت عبر سنوات من الدراسة والممارسة.

وفي محاولة لفهم هذه الظاهرة بشكل أقرب إلى الواقع، أجريتُ استفتاءً عبر صفحتي في إنستغرام حول مدى اعتماد الناس على الإنترنت للتحقق من التشخيص والعلاج الذي يقدمه الطبيب. شارك في هذا الاستفتاء 286 شخصًا، وكانت النتيجة لافتة: 74% أجابوا بنعم، أي أنهم يلجؤون إلى الإنترنت والذكاء الاصطناعي للتأكد من رأي الطبيب، بينما 26% فقط أجابوا بلا. هذه النسبة تكشف اتساع الهوة في الثقة بين المريض والطبيب، وتبرز الحاجة الملحة إلى إصلاح التواصل وتوضيح المعلومات الطبية بشكل أعمق داخل العيادات.

تراجع الثقة في بعض الأطباء لا يمكن إنكاره، خصوصًا مع انتشار قصص الأخطاء الطبية وازدياد أعداد الخريجين الجدد الذين قد تنقصهم الخبرة الكافية. كما أن ضغط العمل في المستشفيات والعيادات قلل من الوقت الذي يقضيه الطبيب مع المريض، ما أدى أحيانًا إلى ضعف التواصل وسوء الفهم. كل ذلك دفع المرضى للبحث عن بديل أو “مرجع إضافي” يساعدهم على تقييم ما يقال لهم داخل غرفة الفحص.

لكن اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي في هذا السياق يحمل خطورة كبيرة. فهذه الأنظمة لا تمتلك القدرة على رؤية المريض أو سماع نبرة صوته أو ملاحظة العلامات الدقيقة التي يلتقطها الطبيب المتمرس. كما أن المعلومات التي يقدمها الذكاء الاصطناعي عامة، وقد تكون قديمة أو غير مناسبة لحالة معينة، بل وقد تكون في بعض الأحيان خاطئة بشكل واضح. والاعتماد عليها لاتخاذ قرار علاجي قد يؤدي إلى نتائج كارثية، منها تأخير العلاج، أو سوء استخدام الأدوية، أو خلق قلق غير مبرر لدى المريض.

إن مهنة الطب ليست مجرد معلومات يمكن قراءتها أو تجميعها من الإنترنت. هي علم وخبرة ومسؤولية إنسانية وأخلاقية. الطبيب لا يصف الدواء فقط، بل يقيّم الحالة ويختار الأنسب بناءً على عوامل كثيرة لا يمكن أن تعكسها محركات الذكاء الاصطناعي. والاحترام الحقيقي لهذه المهنة يبدأ بالإيمان بأن الطبيب هو المرجع الأول والأخير في التشخيص والعلاج.

قد يكون من الطبيعي أن يبحث المريض عن فهم أعمق لمرضه، ولكن الواجب أن يكون هذا البحث مكمّلًا لا بديلاً، وأن يتم بحذر، دون الوقوع في فخ الاطمئنان إلى مصادر لا تعرف المريض ولا ترافقه ولا تتحمل مسؤولية قراراتها.

في النهاية، لا يمكن للذكاء الاصطناعي مهما تطور أن يحل محل الطبيب. العلم يُقرأ، أما الخبرة فتُمارس. والطب في جوهره علاقة إنسانية قبل أن يكون معادلة علمية. احترام هذه العلاقة هو أساس العلاج السليم، والحفاظ عليها مسؤولية مشتركة بين الطبيب والمريض على حد سواء

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com