بقلم: د. غزال أبو ريا

في عالم السياسة، لا تُقاس اللقاءات بين الزعماء فقط بما يُقال على المنصات أو في المؤتمرات، بل بما تكشفه لغة الجسد في لحظات عابرة، قد تختصر مواقف أكثر من بيانات طويلة. فالمصافحة، والابتسامة، وحركة الجسد، وكل تفصيل في الجلوس، كلّها إشارات تعبّر عن موازين القوة والهيبة والارتباك أحيانًا.

من أبرز المشاهد الرمزية، تلك التي سُجّلت في قمة كامب ديفيد عام 2000، حين دخل الرئيس الأمريكي بيل كلينتون يتوسط رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.
حاول كلينتون جمع يدي الزعيمين لمصافحة رمزية أمام الكاميرات، لكن باراك تقدّم بخطوة صغيرة ليدفع عرفات برفق إلى الأمام، في إشارة فهمها كثيرون على أنها تعبير عن رغبة في التفوّق والسيطرة، بينما ردّ عرفات بابتسامة متحفظة وموقف ثابت.

وفي مثال حديث على لغة الجسد الدبلوماسية، لوحظ في أحد الاجتماعات الرسمية أن السفير التركي والسفير الإسرائيلي جلس أحدهما على كرسي أقل ارتفاعًا من الآخر، في مشهدٍ بدا كناية عن مستوى الأهمية أو التسلسل البروتوكولي. هذه التفاصيل الصغيرة في الجلوس أظهرت كيف يمكن للمكان والموقف أن يرسلا رسائل سياسية صامتة قبل أن تُقال أي كلمة.

وليس هذا المشهد الوحيد؛ فقد شهدنا “مصافحة القوة” الشهيرة بين دونالد ترامب وإيمانويل ماكرون عام 2017، وكذلك الموقف المحرج بين باراك أوباما وراؤول كاسترو، حيث حاول الأخير رفع يد أوباما أمام الإعلام، بينما بدا الرئيس الأمريكي متفاجئًا وغير مرتاح.

أما فلاديمير بوتين فله لغته الجسدية الخاصة؛ فقد فاجأ المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بإدخال كلبه إلى غرفة اللقاء، وهو يعلم أنها تخاف الكلاب — مشهد حمل رسائل سياسية مغلفة بابتسامة باردة.

عندما يتحدث السياسيون بلغة المزاح

وللغة الجسد جانب آخر أكثر خفة، هو المزاح السياسي، الذي يحمل أحيانًا دلالات لا تقل أهمية عن الخطاب الرسمي. فالمزاح قد يكون وسيلة لتخفيف التوتر، أو لإظهار الهيمنة، أو حتى لإرسال رسائل مبطّنة.

فقد استخدم دونالد ترامب اليوم في الكنيست الإسرائيلي أسلوبه المعروف، عندما مازح بنيامين نتنياهو قائلاً: “لقد أطلتَ الخطاب يا بيبي!”، ووجّه تعليقة فكاهية أخرى إلى أمير أوحانا وسط ضحكات الحضور. كان المزاح هنا يحمل مزيجًا من السيطرة والاستعراض، لكنه في الوقت نفسه خفّف من حدّة المناسبة الرسمية.

وفي التاريخ السياسي أمثلة كثيرة:
- الرئيس الروسي بوريس يلتسن انفجر ضاحكًا بشكل هستيري أثناء مؤتمر صحفي مع بيل كلينتون، في لحظة أظهرت البعد الإنساني خلف المراسم.
- أما باراك أوباما فكان يستخدم الهزل بذكاء، إذ قال في حفل المراسلين بالبيت الأبيض: “شعري ازداد شيبًا في ولايتي الثانية، وهذا يعني أن جو بايدن بات أقرب إلى الرئاسة أكثر مني!”
- ونيلسون مانديلا استخدم الدعابة لتجسيد التواضع قائلاً: “أنا لست قديسًا… إلا إذا اعتبرتم القديس شخصًا يحاول أن يكون صالحًا أكثر مما هو عليه عادةً.”
- حتى أنجيلا ميركل، المعروفة برصانتها، مازحت أوباما في قمة أوروبية حين فشل في فتح زجاجة ماء قائلة: “حتى الرؤساء يحتاجون لمساعدة ألمانية أحيانًا!”

هذه المواقف تكشف أن المزاح والهزل في السياسة ليسا ترفًا، بل أدوات للتأثير وبناء الصورة، وإدارة اللحظة أمام عدسات العالم. فالابتسامة في لحظة توتر قد تساوي خطابًا كاملاً، والضحكة المدروسة قد تخفّف أزمة أو تفتح بابًا مغلقًا.



كل هذه التفاصيل تُظهر أن لغة الجسد ليست مجرد بروتوكول، بل خطاب سياسي صامت، يُترجم مشاعر القوة أو الارتباك أو الرغبة في الهيمنة أو التقارب، وأحيانًا يُعبّر المزاح ذاته عن موازين خفية في العلاقات بين القادة.

فالسياسة في النهاية — مثل المسرح — لا تعتمد فقط على النص، بل أيضًا على الإداء.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com