كتبت  – رانية مرجية


في بيتٍ قديم تتدلّى جدرانه من ثِقل الأسرار، جلست ليلى أمام المرآة، تنظر إلى عينيها اللتين صارتا أوسع من وحدتها. كل التجاعيد التي زحفت إلى وجهها لم تكن سوى ندوب صامتة من انتظار طويل، انتظار أبٍ غاب فجأة، تاركاً وراءه أبواباً موصدة وطفلة لم تكبر من الداخل قط.

الحي كلّه كان يعرف قصتها. يتحدثون عن والدها الذي مات شاباً، عن جنازة لم يحضرها إلا القليل، وعن طفلة وقفت حائرة تلوّح بيدها للنعش كأنها تستجديه أن يبقى. تلك الطفلة كبرت، لكن الغياب ظلّ يكبر معها.

ليلة البارحة جاءها في الحلم. لم يكن وجهه كما تتذكره: بدا أكبر، متعبًا، لكنه حيّ. قال لها بصوت غريب:

“اقتربي يا ليلى… لم يحن الموت الأخير بعد.”

استيقظت والعرق يغمرها، تحاول أن تميّز بين الحلم والوهم. لكن القدر لم يمهلها كثيرًا. مع حلول المساء، زارتها صديقتها القديمة مريم بعد غياب سنوات. بدت مريم كمن يحمل جرحاً لا يخصه، لكنها مُلزمة بكشفه.

جلستا متقابلتين، والريح تعصف بالنافذة. أخيرًا تجرّأت مريم وقالت:

“ليلى… والدك لم يمت كما قيل. لقد هرب. ترككم ومضى ليبني حياة أخرى. عاشها هناك، في مدينة بعيدة، كان زوجًا لرجلٍ آخر وأبًا لأولادٍ غيرك.”

تساقطت الكلمات في أذن ليلى كالسكاكين. لم يكن موت أبيها موتاً، بل كان موتًا مؤجلاً للحقيقة.

ارتجفت يداها وهي تحاول أن تستوعب. كل سنوات الحداد، كل الدموع، كل الحديث مع قبرٍ فارغ… كان وهمًا كبيرًا.

لكن القصة لم تنتهِ هنا. بعد أيام قليلة، جاءها طرد بالبريد. كان صندوقًا خشبيًا قديمًا يحمل اسم أبيها. فتحته بيد مرتجفة، فوجدت داخله رسائل بخط يده، كتبها لها ولم يرسلها أبدًا. في كل رسالة كان يعتذر، يبرر، يبرر أكثر، ويطلب الغفران.

قرأت رسالة بعد أخرى، حتى خارت قواها. حين وصلت إلى الرسالة الأخيرة، كانت الصدمة القاتلة:

“اعلمي يا ليلى، أنني اخترت موتي بنفسي، واخترت أن يعرفكم العالم موتى أيضًا… لأن الحقيقة أقسى من أي قبر.”

تساقطت الورقة من يدها، وفي لحظة صمتٍ مطبق، توقف قلبها.

الموت الأخير لم يكن موت والدها… كان موتها هي حين اكتشفت أنها لم تعش سوى داخل كذبة مُحكمة.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com