لم تفهم ليان يومًا سرَّ انجذابها للنار. منذ طفولتها وهي تجلس أمام المدفأة المتهالكة في بيتهم الصغير، تحدّق في اللهيب وهو يلتهم الحطب بشراهة. سألت أمها ذات ليلة:
– “لماذا كل ما يدفّئنا ينطفئ سريعًا؟”
أجابت الأم بابتسامة يائسة:
– “ونحن نُشعل غيره يا ابنتي.”
كبرت ليان على هذا الدرس: أن تمنح لتُبقي الآخرين دافئين. أن تُعطي حتى وإن لم يتبقَّ لها شيء.
في الجامعة، التقت بآدم. لم يكن الأجمل، لكنه كان يملك حضورًا يفرض نفسه. ابتسامته تشبه وعدًا غامضًا، وصوته يترك صدى لا يزول سريعًا. اقترب منها خطوة خطوة، حتى صار وجوده جزءًا من يومها. كان يردّد على مسامعها:
– “أنتِ تكتبين من قلبك… لكن القلب لا يحمي أحدًا.”
ابتسمت في كل مرة، وظنّت أنها وجدت من يحمي قلبها.
لكنها لم تدرك أن الحماية التي وُعدت بها ليست سوى وهم. كان بارعًا في الأخذ أكثر من العطاء. وحين سألته: “ما نحن؟” أجاب ضاحكًا:
– “لماذا نبحث عن الأسماء؟ الحرية أجمل.”
صدّقته، ولم تعرف أن الحرية عنده باب خلفي للهروب.
انكشف كل شيء في عام التخرج. وقفت وحدها على المنصة لتعرض مشروعًا كان يفترض أن يقدّماه معًا، بينما هو مشغول “بلقاء مهم”. وبعد أيام قليلة، عرفت أنه أعلن ارتباطه بغيرها.
انهارت ليان، ووجدت نفسها تحترق ببطء. جلست مع صديقتها ندى، تحكي بصوت مكسور. قالت لها ندى بحزم:
– “ليان، لا تكوني طيبة في زمن المصالح.”
– “كنت أظنه مختلفًا.”
– “لا، هو مثلهم. مشكلتك أنك لا تعرفين أن تقولي (لا).”
ترددت الكلمات في رأسها طويلًا: أن تقول لا… أن تحمي نفسها.
عملت بعد التخرج في مكتبة صغيرة. المكان كان بسيطًا، لكنه أنقذها من العزلة. رائحة الورق، خطوات القرّاء، وصوت صاحب المكتبة وهو يقرأ العناوين بصوت مسموع، كانت جميعها تبني جدارًا من الهدوء حول قلبها.
لكن الماضي لا يترك أصحابه بسهولة. عاد آدم، كما يعود دخان قديم من بين الشقوق. دخل المكتبة وقال لها ببرود:
– “اشتقت.”
أجابت وهي تعيد ترتيب الكتب:
– “المكتبة لا تحتفظ بالذكريات.”
ضحك، ثم عرض عليها عملًا جديدًا معه. ترددت، لكن حاجتها للمال دفعتها إلى القبول. امتحان أخير للنار.
في أحد الاجتماعات، قدّمها أمام الآخرين بجملة باردة:
– “هذه كاتبة متعاونة.”
لم يسمّها، لم يمنحها اعترافًا بدورها. مجرد “كاتبة حرة”. شعرت أن سنواتها معه تُختصر في لقب عابر. تلك الليلة، كتبت له:
“أنجزت آخر مهمة. بعد اليوم… لن أستمر.”
اتصل بها سريعًا:
– “لماذا الدراما يا ليان؟”
– “لأنني أريد أن أحمي ما تبقّى مني.”
– “أنتِ تبالغين.”
– “ربما. لكن هذه المرة… اخترت نفسي.”
وأغلقت الهاتف. لأول مرة، شعرت أن قول “لا” ليس قسوة، بل نجاة.
مرت شهور، تعلّمت خلالها أن تقرأ لنفسها لا للآخرين. وفي أمسية ثقافية بالمكتبة، وقفت أمام جمهور صغير لتقرأ نصها الأول بعنوان “احتراق”. قالت بصوت ثابت:
“الطيبة ليست ضعفًا، لكنها تتحول إلى حطب إن لم نحطها بوعي وحدود. كل نار تحتاج إلى دائرة من الحجارة تحميها. ليست قسوة، بل حفاظ على الشعلة.”
ساد الصمت لحظة، ثم ارتفعت التصفيقات. رأت في عيون الحضور شيئًا من التصديق، ورأت في عيني ندى دموعًا دافئة.
تلك الليلة، جلست أمام مرآتها، رأت في انعكاسها امرأة مختلفة: لم تعد النار عدوّها، بل صارت صديقة. نار تمنح دفئًا… لا احتراقًا.
كتبت في دفترها:
“لم أنطفئ… لقد ولدت من الرماد.”
النهاية.
bokra.editor@gmail.com
أضف تعليق