بقلم: رانية مرجية
في نصها “بين فتنتين”، تفتح روز اليوسف شعبان نافذة على هاوية ممتدة، حيث تتقاطع الفتنة كحدث عابر مع الفتنة كحالة وجودية. الفتنة هنا ليست مجرد صراع خارجي، بل هي تمزق داخلي، ينهش الذات والجماعة معًا. ومن هذا المنظور، يصبح النص شهادة على زمن مأزوم، لكنه أيضًا مرآة للنفس حين تُبتلى بالتشظي بين الأمل واليأس.
التكرار اللافت لعبارة “بين فتنة وفتنة” يعمل كإيقاع داخلي، أشبه بخط النبض الذي يعلو ويهبط، ليذكّر القارئ أن الفتنة ليست لحظة، بل دورة تتوالد في الفراغ الروحي والاجتماعي. هذا التكرار يضمر فلسفة كاملة: أن التاريخ يعيد نفسه حين تغيب البصيرة، وأن الغياب الأخلاقي يفتح أبواب الفوضى بلا رقيب.
في البنية الصورية، تحشد الشاعرة صورًا تتقاطع فيها عناصر الكون: النخيل، العصافير، القمر، السنابل، وهي رموز مشبعة بدلالات الحياة والخصب، لكنها في النص مثخنة بالجراح. تتحول النخلة إلى صليب تُصلب عليه الآهات، والعصافير إلى ضحايا، والقمر إلى شاهد ناقوسه الصراخ. هذه المفارقة بين الأصل الحياتي والوظيفة المأساوية تخلق توترًا شعوريًا، يدفع القارئ إلى إعادة النظر في بداهات الجمال.
على المستوى النفسي، النص يلتقط بدقة لحظة الانكسار الجمعي، حيث يتحول الخوف من خطر خارجي إلى استسلام داخلي، ويغدو البحث عن “سبائك النور” أشبه بمحاولة إنقاذ المعنى من بين أنياب العدم. هنا، يتحول القارئ إلى مشارك في التجربة، إذ تتوجه الأسئلة مباشرة إليه: أما من ضمير؟ أما من بزوغ لشمس الحقيقة؟، وكأن النص يطالبه بمغادرة مقعد المتفرج.
من الناحية الفلسفية، “بين فتنتين” يمكن قراءتها كحوار بين الحقيقة والوهم، بين شمس تنكسف خجلًا وظل يكبر حتى يحجبها، بين المعنى الأصلي للحياة وبين محاولات تزييفه. وفي كل ذلك، يبدو أن الشاعرة تدرك أن الفتنة الأخطر ليست ما يفعله الآخر بنا، بل ما نسمح نحن بحدوثه داخلنا.
إن هذا النص، بعمقه الشعوري وغناه الرمزي، يتجاوز حدود القصيدة المأساوية ليغدو بيانًا شعريًا ضد الاعتياد على الخراب، وضد الصمت الذي يمنح الفتنة عمرًا أطول. روز اليوسف شعبان هنا لا تكتب مجرد وصف لما يجري، بل تقدم خريطة وجدانية–فكرية للخروج من دائرة التيه، شرط أن نستعيد البوصلة الأخلاقية، وأن نجرؤ على رفع الشمس فوق كل الظلال.
النص الأصلي: “بين فتنتين” – روز اليوسف شعبان
بين فتنةٍ وفتنة
ترتفع هاماتُ الضلالِ
تقتحم فلولُ الانكسارِ
جدرانَ الحقيقة
تئنّ الطرقاتُ
على مذابحِ الهزيمة
تُصلب الآهاتُ
فوق جذوعِ النخلِ
تموت العصافيرُ
تولدُ الضغينة
بين فتنةٍ وفتنة
يتراوح الزمانُ
يتيه بين الأمكنةِ والخيال
تغربُ نجمةُ السكينة
تمورُ النسورُ
تبحث عن طريدة
بين فتنةٍ وفتنة
ألفُ آهٍ وآه
تشريدٌ وضياع
متاهاتٌ في سراديبِ اليقين
قهرٌ في بقايا صور
صهيلٌ في أجنحة الظلام
ورنّةُ ضحكاتِ الصقورِ
أما من طيورٍ؟
أما من فريسة؟
بين الفتنةِ والفتنة
تتأرجحُ شمسُ الحقيقة
تنكسف خجلًا
يكبر ظلُّ الوهمِ
يحجبها
تصيح من بين براثنه
أين أنتم؟
أين سبائكُ النور؟
كيف تُحجب دون إذنٍ منّي؟
أما من طلائع َ
تغسل وجهَ الذهول؟
بين الفتنة والفتنة
ألفُ جريحٍ وجريح
وقلوبٌ تستغيث
تنهمر دماءُ العيون
ينخسف القمرُ
يصيح: أين أنتم؟
أما من ضمير؟
أما من ديمةٍ
تظلّل سنابلَ قمحٍ
ولهفةَ شريدٍ
قبل احتراق المنى؟
بين الفتنة والفتنة
تُمحى جدرانُ الذاكرة
تستغيث وتستغيث….
أما من مجيب؟
أما من بزوغ لشمس الحقيقة؟
روز اليوسف شعبان
bokra.editor@gmail.com
أضف تعليق