في الأيام الأخيرة، وبينما تتواصل نيران الحرب وتتصاعد تداعياتها، بدأ مشهد غير معتاد يتكوّن داخل إسرائيل، مشهد يشي بتغير داخلي عميق لم تشهده البلاد في مثل هذه اللحظات من قبل. أصوات الاحتجاج لا تأتي هذه المرة فقط من الشارع أو ساحات التظاهر التقليدية، بل تتصاعد من قلب المؤسسات العسكرية والطبية والتعليمية، من أولئك الذين ظلّت أصواتهم في العادة جزءًا من الإجماع الرسمي.
بداية، جاء صوت الأطباء الذين رفعوا نداءهم بوضوح: أكثر من 200 طبيب إسرائيلي وجّهوا رسالة مباشرة إلى القيادة السياسية والعسكرية، دعوا فيها إلى وقف فوري للحرب وإعادة جميع المختطفين إلى ديارهم. الأطباء، بحكم وظيفتهم التي ترتكز على إنقاذ الأرواح، نبّهوا إلى أن استمرار القتال لا يخدم إلا المصالح الشخصية والسياسية الضيقة، بينما الجنود والمختطفين يدفعون الثمن بأرواحهم.
ثم تلاهم تحرك غير مسبوق من داخل أروقة جهاز الاستخبارات الأشهر في إسرائيل. أكثر من 250 من كبار ضباط الموساد السابقين، وبينهم ثلاثة رؤساء سابقين للجهاز، انضموا إلى نداء وقف الحرب، مؤكدين أن استعادة المحتجزين يجب أن تكون الأولوية القصوى، حتى وإن كان الثمن إنهاء العمليات العسكرية. قاد هذه المبادرة شخصيتان بارزتان من داخل الجهاز: غايل شورش ودافيد ميدان، مما منح الخطوة ثقلًا استثنائيًا.
ولم يكن المجتمع التربوي بعيدًا عن هذه الموجة. نحو ألفي معلم ومعلمة، من مختلف أنحاء البلاد، وقّعوا على عريضة مماثلة، شددوا فيها أن تحركهم ليس تمرّدًا على الدولة بل نداء صادق ينبع من المسؤولية الأخلاقية العميقة تجاه الحياة والأمل. أكدوا أن الحل السياسي وحده هو الذي يمكن أن ينقذ الأرواح وينهي المأساة المتواصلة.
حتى في قلب المؤسسة العسكرية، وتحديدًا في صفوف سلاح البحرية، علت الأصوات المنتقدة. عشرات الضباط والجنود، بمن فيهم من لا يزالون في الخدمة الفعلية، وجّهوا رسالة صريحة إلى الحكومة: أوقفوا الحرب. كتبوا بوضوح أن الحرب باتت تخدم مصالح سياسية، لا الأهداف الأمنية التي يدّعونها.
وفي موازاة ذلك، صدرت رسالة أخرى من الأطباء الذين يخدمون في الاحتياط. هؤلاء، وهم الذين يرون يوميًا نتائج الحرب في ساحات القتال وفي المستشفيات، حذّروا من أن استمرار العمليات العسكرية يناقض قسم الطبيب وينتهك مبادئ الأخلاق الطبية والعسكرية معًا.
جميع هذه المبادرات التي انطلقت من مواقع مختلفة في المجتمع الإسرائيلي، ورغم تباين خلفياتها ومصادرها، اجتمعت على قاسم مشترك واحد: الدعوة إلى إنهاء الحرب فورًا، واستعادة المختطفين، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأرواح قبل أن يغرق الجميع في مستنقع لا قاع له. الصوت الذي كان بالأمس همسًا مترددًا، يتحوّل اليوم إلى نداء جماعي يعلو بقوة، ويزداد حضوره في مشهد لم يعد من الممكن تجاهله.
مدفوعة بحسابات سايسية وليست أمنية
رون غيرلتس، الذي خدم سابقًا كضابط احتياط في سلاح البحرية الإسرائيلي وأنهى خدمته قبل خمس سنوات، واليوم يشغل منصب مدير "اكورد"، شارك في التوقيع على رسالة الضباط التي دعت إلى وقف الحرب فورًا. يتحدث رون بنبرة واضحة وقاطعة:"نعم، وقّعت على الرسالة مع آلاف الضباط. نحن أمام حالة نادرة جدًا، لم يسبق أن حدثت في إسرائيل خلال وقت حرب. آلاف الضباط، من بينهم جنود احتياط لا يزالون في الخدمة، وقعوا لأنهم أدركوا الحقيقة: هذه الحرب مدفوعة بحسابات سياسية ضيقة، وليست لأجل أمن الدولة".
يشير رون إلى التحول المتسارع الذي يشهده الميدان والرأي العام معًا. "في الساعات الأخيرة فقط، رأينا موجة جديدة من الانضمام إلى الاحتجاج. المزيد من الضباط والجنود يوقعون على هذه الرسائل. بينما الحكومة تصرّ على أن الحرب مبررة وتخدم الأهداف الأمنية، يأتي الجنود أنفسهم ليقولوا: لا. الحرب لا تخدم أمن إسرائيل. إنها تخدم أهدافًا سياسية بحتة".
"الحرب تطيل أمد المعاناة"
يؤكد رون أن أحد دوافع توقيعه على الرسالة هو شعوره بالمسؤولية تجاه مصير المختطفين وايضًا سكان غزة. ويضيف: "الوضع مروع. القتال لا يحقق أهداف الحرب المعلنة. على العكس، استمرار العمليات العسكرية يزيد من معاناة الجنود في الميدان ويؤدي إلى قتل مدنيين أبرياء في غزة. صحيح أن الكثير من هذه الجرائم وقعت قبل أن تتحرك هذه الاحتجاجات، لكن من واجبنا الآن أن نعمل على إيقاف هذا القتل فورًا".
"قوة مدنية متنامية: نحو حركة ضغط واسعة النطاق"
رون يرى في هذه التحركات بداية موجة ضغط شعبي حقيقية. "نحن نشهد اليوم بذور تغيير حقيقي. هناك شعور متزايد في صفوف الجنود والضباط أن هذه الحرب لا هدف لها. كثير من جنود الاحتياط لا يحضرون إلى الخدمة لأنهم يدركون عمق الأزمة. نحن أمام أطول حرب تشهدها إسرائيل، ومع كل يوم إضافي، تتسع دائرة من يفقدون الثقة ويقررون عدم المشاركة".
يتابع رون حديثه بحزم: "أنا شخصيًا تمنيت أن تبدأ هذه الحركة قبل عام، قبل أن تُراق كل هذه الدماء، ولكن حتى اليوم، كل خطوة في هذا الاتجاه قادرة على إنقاذ أرواح إضافية. علينا أن نحافظ على هذا الزخم".
"دعوة صريحة للمجتمع العربي: هذه لحظة تاريخية"
في سياق حديثه، يوجه رون رسالة خاصة للمجتمع العربي، قائلاً:"من الضروري أن تشارك المزيد من الشرائح في هذا الاحتجاج. لقد رأينا بالفعل توقيع الأطباء والمعلمين، وهذه تطورات مهمة للغاية. الوضع اليوم استثنائي بكل المقاييس. أريد أن أقول، بحذر شديد ولكن بثقة: المجتمع العربي كان ضحية لعمليات إسكات منظمة، ومن أعرب عن موقف مناهض للحرب تعرض للعقوبات".
ويتابع: "لكن الوضع تغيّر. هناك اليوم آلاف المواطنين اليهود الذين يرفعون صوتهم ضد الحرب. هذه لحظة مناسبة للمجتمع العربي ليقول كلمته بوضوح. إذا انضم معلمو ومعلمات المجتمع العربي إلى هذه الحركة، سيعززون الصوت الرافض للحرب وسيمنحونها بعدًا أقوى".
"تحالف شعبي واسع قد يغير مسار الحرب"
يؤمن رون بقوة الحراك الشعبي كمحرّك للتغيير. يقول: "نحتاج إلى بناء قوة مدنية ضخمة قادرة على إنهاء الحرب. هناك آلاف من المواطنين الذين يمكن إنقاذهم إذا توقفنا الآن. المواطنين العرب لديهم دور مركزي في ذلك. نحن بحاجة إلى هذا التحالف الواسع الذي يضم الجميع، دون استثناء، لأن صوت الشعب هو الأمل الحقيقي المتبقي".
يختتم رون حديثه برسالة واضحة: "مسؤولية إنهاء هذه الحرب تقع علينا جميعًا. على كل من يستطيع أن يرفع صوته أن يفعل ذلك الآن، قبل أن تقع المزيد من الكوارث. المستقبل بين أيدينا".
bokra.editor@gmail.com
أضف تعليق